من المعروف في المراجع النظرية أن بعض البكتيريا قادرة على توليد الميثان من خلال مسارٍ إنزيمي، لكن ظهرت دراسة جديدة تقدِّم أدلة على وجود مسار بديل غير إنزيمي لإنتاج الميثان، قد يوجد في جميع الخلايا النشِطة أيضيًّا.
تشانج ليو، وجينجياو جانج
يتولَّد أغلب غاز الميثان من خلال مسار إنزيميّ لدى كائنات حيّة دقيقة تُسَمَّى »العتائق المولِّدة للميثان» methanogenic archaea، في ظروف ينعدم فيها الأكسجين تمامًا (أو ظروف غير أكسجينية، كما تُعرَف اصطلاحًا). وقد اتَّضح خلال العقد الماضي أن بعض أنواع الكائنات الحية التي تعتمد على الأكسجين، ومن بينها نباتات وفطريات معينة، قادرة بدورها على إنتاج الميثان. إلا أن الآليات الكامنة وراء هذا المسار البديل لتوليد الميثان ظلت غامضة. وفي بحث نُشر مؤخرًا في دورية Nature، يُجلي الباحث ليونارد إرنست وفريقه البحثي بعضًا من هذا الغموض، مستعرضًا اكتشاف فريقه لإمكان توليد الميثان عبر عملية تغذيها مركَّبات الأكسجين التفاعلية (ROS)، ولدى جميع الكائنات الحية، سواء وُجدت هذه الكائنات في بيئة غير أكسجينية، أو لا. ولا تستلزم هذه العملية وجود إنزيمات معيَّنة لإنتاج الميثان، وإنما تتطلَّب وجود مركَّبات الأكسجين التفاعلية، وجزيئات حديد حُرَّة، ومركَّبات مناسبة من ناحية قدرتها على إضافة مجموعات الميثيل.
وكان الفريق البحثي الذي أجرى الدراسة التي يتناولها هذا المقال قد وصَّف من قبل، في عام 2014، مسارًا من ثلاث خطوات يمكن من خلاله إنتاج غاز الميثان (CH4) مختبريًا، في إطار نظام غير بيولوجي، ودون الحاجة إلى الإنزيمات. وتستلزم هذه العملية وجودَ ثلاثة عوامل أساسية، هي: مركَّب أكسجين تفاعلي يُسَمَّى بيروكسيد الهيدروجين (H2O2)، وجزيئات حديد حُرَّة، ومركَّبات مناسبة من ناحية قدرتها على إضافة مجموعات الميثيل. وبتحقُّق هذه الشروط، تبدأ عملية إنتاج غاز الميثان لتحدث على ثلاث خطوات. في الخطوة الأولى، يحدث تفاعل «فنتون» Fenton – وهو تفاعل بين بيروكسيد الهيدروجين والحديد ثنائي التكافؤ المُخْتَزَل (Fe2+) الذي يُعدّ أحد مكونات الحديد الحُرّ- وينتج عنه مركَّب أكسجين ذو قدرة عالية على التفاعُل، يُسمَّى جذر الهيدروكسيل (OH)، فضلًا عن نواتج ثانويّة أخرى. وفي الخطوة الثانية، يتفاعل جذر الهيدروكسيل مع الجزيئات التي تضيف مجموعات الميثيل، وتتمخَّض هذه التفاعلات عن جذور الميثيل (.CH3). أمَّا في الخطوة الثالثة والأخيرة، فيتولَّد الميثان من تفاعل جذور الميثيل مع جذور الهيدروجين.
وقد زعَم إرنست وفريقه البحثي أن الإنتاج غير الإنزيمي للميثان يمكن أن يحدث أيضًا في الخلايا الحية (شكل 1). وتأييدًا لهذه الفرضية، أجرى الفريق التفاعلات المختبرية المُشَار إليها في الفقرة السابقة في بيئة تحاكي الظروف الداخلية للخلايا. ويرى الفريق أيضًا أن الخلايا دائمًا ما تُولِّد وتُطلِق مُركَّبات أكسجين تفاعلية (منها بيروكسيد الهيدروجين)، والعديد من مركَّبات الميثيل7، وأيونات حديد حُرّ، في أثناء أدائها للعمليات الأيضية الطبيعية.
وقد اختبر الباحثون صحَّة نظريتهم على «البكتيريا العصويّة الدقيقة» Bacillus subtilis، التي تتألَّف دورة حياتها من مرحلة خمول (أي خمول أيضي)، ومرحلة إنبات (أيْ نمو ونشاط أيضي). ومن ثَمَّ، عمَدوا إلى تحفيز هذه البكتيريا على النمو فوق وسطٍ يحتوي على جزيء ثنائي ميثيل السلفوكسيد (DMSO)، وهو مُركَّب مانح للميثيل. وقد خَلُصوا من تجربتهم إلى أن خلايا هذه البكتيريا النشطة أيضيًا أنتجت الميثان تلقائيًا وباستمرار، على عكس ما لاحظوه في الخلايا الخاملة التي لم تُنتج الميثان.
وكشف إرنست وفريقه البحثي أن تغيير مستويات ثنائي ميثيل السلفوكسيد، أو الحديد الحُرّ، الموجودة في الخلايا، كان له أثر على إنتاج الميثان في الخلايا البكتيرية النشطة أيضيًّا.كما استطاع الفريق أيضًا زيادة إنتاج الميثان عن طريق إثارة حالة من الإجهاد التأكسدي، وهي حالة تظهر عند زيادة مستويات مُركَّبات الأكسجين التفاعليَّة لمستويات خطرة تحت ظروف فسيولوجية وباثولوجية عديدة، وبسببها تعجز الخلايا عن الحفاظ على التوازن الطبيعي لتفاعلات الأكسدة والاختزال. ويُبيِّن حصاد البيانات التي جمعها الفريق البحثي أن الشرط الأساسي للإنتاج غير الإنزيمي للميثان هو الأيض النشط، وهي عملية تقوم بها جميع الكائنات الحيّة. ومن هنا، انتقل الفريق البحثي إلى عرض مزيد من الأدلة المؤيِّدة لفكرة أن إنتاج الميثان عن طريق مُركَّبات الأكسجين التفاعلية يحدث لدى جميع الكائنات الحية، إذ أثبتوا أن هذه العملية تظهر أيضًا في خلايا الفطريات والخلايا النباتية والخلايا البشرية.
ويمكن النظر إلى عملية إنتاج الميثان عن طريق مُركَّبات الأكسجين التفاعلية بوصفها عملية تصنيع آلي، الخامات السائدة فيها هي أنواع الأكسجين التفاعليّة والحديد الحُرّ ومركَّبات الميثيل، والميثان هو ناتجها. وتَنتُج مُركَّبات الأكسجين التفاعلية بفعل عدَّة عمليات أيضية رئيسية، وتُعد هذه المُركَّبات من الجزيئات المؤشرة المهمّة لدى مُباشَرة الخلايا نشاطها الطبيعي. ومن الوارد أن يكون إنتاج الميثان مِن مُركَّبات الأكسجين التفاعلية مجرّد طريقة تتخلَّص بها الخلايا من فائض مُركَّبات الأكسجين التفاعلية عند زيادة النشاط الأيضي بنسبة تُهدّد بتراكم طويل الأمد لهذه المركبات التي قد تكون سامَّة. وهو ما قد يُتلف جزيئات مهمّة، مثل الأحماض النووية والأحماض النووية الريبية، والبروتينات والليبيدات.
إن اكتشاف هذا المسار الحيوي غير الإنزيمي لإنتاج الميثان يفتح بابًا لمزيدٍ من البحث العلمي في عدد كبير من المجالات، من الطبِّ إلى علوم الأرض، بل حتّى البيولوجيا الفلكية.
يملك الباحثون اليوم وصفة لإنتاج الميثان مختبريًا وفي الخلايا الحية لدى جميع أنواع الكائنات الحية. والآن، يجب عليهم الشروع في سلسلة أخرى من الخطوات البحثية لدراسة الميثان، من بينها خطوات لاكتشاف الميثان المتولِّد عن طريق مُركَّبات الأكسجين التفاعلية، وخطوات لدراسة استخدام هذا المُنْتَج في الخلايا والأنسجة. وهذه الخطوات بدورها قد تقود الدراسات المستقبلية نحو منعطف مثير للاهتمام، وهو منعطف الأبحاث الطبية في هذا المجال. فمن الوارد أن تكون مستويات توليد الميثان مِن مركَّبات الأكسجين التفاعلية مؤشرًا على مستويات هذه المركبات، كما يمكن صياغة اختبار تشخيصي يقوم على قياس مستوى الميثان في نفَس المريض أو دمه أو أنسجته. وقد كشفت دراسة سابقة، أُجرِيت على الكلاب، أن استنشاق الميثان مع غازات التنُّفس قد يحدُّ من مخاطر إعادة التروية (أي التلف النسيجي الناجم عن عودة تدفُّق الدم المحمَّل بالأكسجين إلى نسيج القلب بعد فترةٍ من نقص الأكسجين)، بتقليل الإجهاد التأكسدي والالتهابات. وكل هذا يُبشِّر بأن الاهتمام بدراسة توليد الميثان من مُركَّبات الأكسجين التفاعليّة من منظور علم الأحياء قد يكون له مردود جيد مستقبلًا.
وبعيدًا عن الأبحاث في علم الأحياء، فإن فكرة أن جميع الكائنات الحيّة تُنتج الميثان باستمرار تُعد مثيرةٌ لاهتمام علماء الأرض والمناخ، نظرًا إلى كون الميثان أحد غازات الدفيئة. بَيْدَ أنه سيكون من الصعب تحديد ما إذا كان توليد الميثان من مركَّبات الأكسجين التفاعليّة يلعب دورًا صريحًا في حجم الانبعاثات العالمية الكلية من الميثان، أم لا. وخلاصة القول أن العلماء لا يزال أمامهم طريق بحثي طويل يتعيَّن عليهم السير، كي يستوعبوا حجم الآثار المترتِّبة على الاكتشاف المهم الذي توصَّل إليه إرنست وفريقه البحثي.
- المصدر: نيتشر الطبعة العربية