ماتيو بربرينو, إدارة العلوم والتطبيقات النووية في الوكالة
الاندماج النووي هو العمليةُ التي تندمج على إثرها نواتان ذريتان خفيفتان لتكوّناَ نواة ذرية واحدة أثقل وزناً، ويصاحب هذه العملية انبعاث كميات هائلة من الطاقة.
وتحدث تفاعلات الاندماج عندما تكون المواد في حالة تُسمى بحالة البلازما — وهي حالة تتَّخذ المادة فيها شكل غاز ساخن مشحون مكوَّن من أيونات موجبة وإلكترونات طليقة لها خصائص فريدة تميِّزها عن الحالات الصلبة والسائلة والغازية.
وتستمدُّ الشمس وسائر النجوم طاقتها من هذا التفاعل. ولكي يقع الاندماج في الشمس التي تشرق على كوكبنا، يتطلب الأمر تصادُم النويات بعضها ببعض في درجات حرارة عالية جداً تبلغ نحو عشرة ملايين درجات مئوية. فدرجة الحرارة العالية جداً توفِّر للنويات ما يكفي من الطاقة للتغلب على التنافر الكهربائي فيما بينها. فإذا صارت المسافات بين النويات قريبة للغاية، تبلغ قوة التجاذب النووي بينها مستوى يفوق التنافر الكهربائي بما يتيح لها أن تندمج معاً. ولكي يحصل ذلك، يجب احتواء النويات داخل حيِّز صغير لزيادة فرص التصادُم. وتتحقَّق الظروف اللازمة لعملية الاندماج في قلب الشمس بسبب مستوى الضغط البالغ الارتفاع الذي ينتج عن جاذبية الشمس الهائلة.
لماذا يدرس العلماء طاقة الاندماج؟
منذ التوصُّل إلى فهم نظرية الاندماج النووي في ثلاثينيات القرن الماضي، والعلماء، والمهندسون بشكل متزايد أيضاً، يسعون إلى إعادة إنشائه وتسخير الطاقة الناتجة عنه. والسبب في ذلك يرجع إلى أنه في حال تسنى إعادة استنساخ الاندماج النووي على كوكب الأرض على نطاق صناعي، يمكن أن يؤدي ذلك إلى توفير طاقة لا حدود لها تقريباً من الناحية العملية وتتَّسم بكونها نظيفة وآمنة وميسورة التكلفة لتلبية الطلب العالمي.
فالاندماج يستطيع أن يولِّد طاقة لكل كيلوغرام واحد من الوقود أكبر بأربعة أضعاف من الطاقة التي يولِّدها الانشطار (المستخدم في محطات القوى النووية)، وأكبر بحوالي أربعة ملايين ضعف من الطاقة التي تولَّد من حرق النفط أو الفحم.
وستستخدم معظم مفاهيم مفاعلات الاندماج التي يجري تطويرها مزيجاً من الديوتيريوم والتريتيوم — وهي ذرات هيدروجين تحتوي على نيوترونات إضافية. ومن الناحية النظرية، فباستخدام بضعة غرامات فقط من هاتين المادتين المتفاعلتين يمكن إنتاج تيراجول واحد من الطاقة، وهو ما يعادل تقريباً كمية الطاقة التي تكفي لتلبية احتياجات شخص واحد من سكان البلدان المتقدِّمة على مدى ستين عاماً.
ووقود الاندماج متوفر بكثرة ومن السهل الحصول عليه: فالديوتيريوم يمكن استخراجه بتكلفة زهيدة من مياه البحر، أمَّا التريتيوم فيمكن إنتاجه من تفاعل النيوترونات المتولدة عن الاندماج مع الليثيوم الموجود بوفرة في البيئة الطبيعية. وستستمر هذه الإمدادات من الوقود لملايين السنين. كما أن مفاعلات الاندماج المستقبلية آمنة في جوهرها ولا يتوقع أن تنتج نفايات نووية قوية الإشعاعي أو طويلة العمر. وعلاوة على ذلك، ونظرا لصعوبة بدء عملية الاندماج والحفاظ عليها، فلا يوجد خطر حدوث تفاعل جامح وانصهار؛ ولا يمكن أن يحدث الاندماج إلا في ظل ظروف تشغيلية صارمة، لأن البلازما تنتهي بشكل طبيعي خارج هذه الظروف (في حالة وقوع حادث أو عطل في النظام، على سبيل المثال)، فتفقد البلازما طاقتها بسرعة كبيرة وتنطفئ قبل حدوث أي ضرر دائم في المفاعل.
والأهم من ذلك، أن الاندماج النووي — تماما مثل الانشطار — لا ينبعث منه ثاني أكسيد الكربون أو غازات الدفيئة الأخرى في الغلاف الجوي، لذلك يمكنه أن يكون مصدرا طويل الأمد للكهرباء المنخفضة الكربون من النصف الثاني من هذا القرن إلى ما بعده.
أسخن من الشمس
مع أن قوة جاذبية الشمس الهائلة تؤدي إلى حدوث الاندماج بشكل طبيعي، فمن دون هذه القوة من الضروري لكي يحدث ذلك التفاعل وجود درجة حرارة تتجاوز حتى حرارة الشمس. ونحتاج فوق سطح الأرض إلى درجات حرارة أعلى من 100 مليون درجة مئوية لجعل الديوتيريوم والتريتيوم يندمجان، مع تنظيم الضغط والقوى المغناطيسية في نفس الوقت لكي يكون هناك احتواء مستقر للبلازما وللحفاظ على تفاعل الاندماج لفترة طويلة تمكِّن من إنتاج كمية من الطاقة أكثر مما هو مطلوب لبدء التفاعل.
ومع أنَّ التجارب التي تجرى الآن تتوصَّل بصورة روتينية إلى تحقيق ظروف قريبة للغاية من الظروف المطلوب توافرها في مفاعلات الاندماج، إلا أنَّه ما زالت هناك حاجة إلى تحسين احتواء البلازما واستقرارها للحفاظ على التفاعل وإنتاج الطاقة بصورة مستدامة. ويواصل العلماء والمهندسون في شتى أنحاء العالم تطوير واختبار مواد جديدة وتصميم تكنولوجيات جديدة من أجل تحقيق إنتاج صافٍ من طاقة الاندماج على أرض الواقع.
هناك فئة واسعة تعتبر أنَّ توليد الطاقة من الاندماج النووي هو التحدي الهندسي الكبير للقرن الحادي والعشرين. فما الذي يتعين عمله لجعل قوى الاندماج مجدية تجاريا؟
أين نحن من تطوير تكنولوجيا الاندماج؟
هناك بحوث تجري في مجال الاندماج النووي وفيزياء البلازما في أكثر من 50 بلدا، وفي الآونة الأخيرة توصَّل الباحثون إلى تحقيق مكاسب علمية في الطاقة في تجربة اندماج لأول مرة. وتوصل الخبراء إلى وضع تصميمات مختلفة واستحداث آلات قائمة على المغناطيس يحدث فيها الاندماج، مثل أجهزة الستيلاريتور والتوكاماك، بل ووضعوا نُهُجاً تعتمد على أجهزة الليزر والأجهزة الخطية وأنواع الوقود المتقدمة.
وسيتوقف الوقت الذي سيستغرقه نشر طاقة الاندماج بنجاح على تعبئة الموارد من خلال إقامة شراكات وعبر التعاون على الصعيد العالمي، وسيعتمد ذلك على مدى سرعة القطاع الصناعي في تطوير تكنولوجيات الاندماج الناشئة والتحقق من صحتها وتأهيلها. وثمة مسألة هامة أخرى تتمثل في التمكن موازاة لذلك من إرساء البنية الأساسية النووية الضرورية، مثل تحديد المتطلبات والمعايير والممارسات الجيدة ذات الصلة بالوصول إلى هذا المصدر المستقبلي للطاقة.
وبعد 10 سنوات من تصميم المكونات وإعداد الموقع والتصنيع في جميع أنحاء العالم، بدأ في عام 2020 تجميع المفاعل التجريبي الحراري النووي الدولي ITER في فرنسا، وهو أكبر مرفق اندماج دولي في العالم. والمفاعل ITER هو مشروع دولي يهدف إلى إثبات الجدوى العلمية والتكنولوجية لإنتاج طاقة الاندماج وإثبات التكنولوجيا والمفاهيم اللازمة لمحطات قوى الاندماج الإيضاحية التي تنتج الكهرباء في المستقبل، ويطلق عليها محطات قوى اندماج إيضاحية. وسيبدأ المفاعل ITER في إجراء أولى تجاربه في النصف الثاني من هذا العقد، ومن المقرر أن يبدأ إجراء تجارب بكامل القوى في عام 2036.
وتختلف الجداول الزمنية لمحطات قوى الاندماج الإيضاحية باختلاف البلدان، ولكن هناك توافق في الآراء بين الخبراء على أنه يمكن تشييد وتشغيل محطة لإنتاج الكهرباء بقوى الاندماج بحلول عام 2050. وتزامناً مع ذلك، فإن العديد من المؤسسات التجارية الممولة من القطاع الخاص تخطو أيضا خطوات كبيرة نحو تطوير مفاهيم لمحطات قوى الاندماج، بالاعتماد على الدراية التي تم اكتسابها على مدى سنوات من أنشطة البحث والتطوير الممولة من القطاع العام بل وتقترح التوصل إلى قوى الاندماج في وقت أقرب.
* المصدر: الوكالة الدولية للطاقة الذرية.